الغفلة، في جوهرها العرفاني، ليست مجرد نسيان أو سهو عابر، بل هي حجاب ثقيل يسدل على القلب، يمنع المسافر من مشاهدة الحقيقة ويغرقه في ظلمات البُعد. إنها السكون الخادع في بحر السعي، حيث ينشغل الإنسان بظل الحياة، غافلًا عن شمس الحقيقة التي تنير الوجود. الغفلة هي غياب الوعي بالحضور الإلهي، وهي العمى الروحي الذي يجعل المرء يرى الأشياء في ظاهرها ولا يدرك حقيقتها. إنها التيه في تفاصيل الكثرة، والانفصال عن وحدة الحق. قال الإمام علي عليه السلام: “النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا”، فما الغفلة إلا النوم الروحي الذي يغطي البصيرة ويُميت القلب. ماهية الغفلة في الفكر العرفاني الغفلة، وفق الرؤية الشيعية العرفانية، ليست نقصًا في الإدراك العقلي، بل في الارتباط الوجودي مع الله سبحانه وتعالى. إنها اغتراب الإنسان عن نفسه الحقيقية، وانحصاره في عوالم المادة والزوال. الغفلة تجعل القلب أسيرًا للكثرة، حيث يصبح أسير الرغبات والشهوات، فتغيب عنه وحدة الوجود التي هي التجلي الأعظم لله في كل شيء. هي فقدان العبد لقدرته على رؤية الله في كل حركة وسكون، فيُصبح محجوبًا خلف ستار الأنانية والجهل. الغفلة: درجاتها وتجلياتها الغفلة ليست واحدة، بل لها مراتب تتفاوت بحسب ابتعاد الإنسان عن الحق: 1. غفلة الظاهر: انشغال الحواس عن آيات الله، حيث يرى الإنسان الطبيعة والخلق دون أن يدرك أنها آيات تُشير إلى الله. 2. غفلة الباطن: وهي أعمق، حيث يغيب القلب عن ذكر الله وينشغل بالمخلوق بدل الخالق. 3. غفلة العارف: هي غفلة تصيب حتى المسافرين في طريق العرفان، عندما يغترّون بمقام أو يتشبثون بكرامة وينسون المُنعم. أسباب الغفلة في مسار المسافر 1. طغيان الدنيا: حين تصبح الحياة المادية محور التفكير، فتُحجب النفس عن مصدرها. 2. الركون إلى النفس: الاعتماد على الذات دون الالتفات إلى حاجة النفس المُطلقة لله. 3. رفقة الغافلين: حيث إن الصحبة تؤثر في القلب، فإن كان الرفيق غافلًا، سحب قلب صاحبه إلى الغفلة. 4. نسيان الموت: الغفلة الحقيقية تبدأ من نسيان العاقبة، والانغماس في الحاضر الفاني. 5. غياب الذكر: الذكر هو جسر اليقظة، والغفلة تولد من تركه. الغفلة كاختبار إلهي في الفكر الشيعي العرفاني، الغفلة ليست مجرد عقوبة، بل هي محطة اختبار وضعها الله ليُظهر صدق المسافر في رحلته. هي دعوة ضمنية إلى البحث عن النور في الظلام. كل لحظة غفلة قد تكون فرصة لاستيقاظ أعظم، فالغفلة هي ليل الرحلة، وليلها مقدمة لصباح التوحيد. كيف يتعامل المسافر مع الغفلة؟ 1. التفكر في خلق الله: قال أمير المؤمنين عليه السلام: “التَّفَكُّرُ دَعْوَةٌ إِلَى الْبِرِّ”. التأمل في عظمة الخلق يُعيد المسافر إلى عظمة الخالق. 2. المحاسبة اليومية: الغفلة تبدأ بالتدريج، والمحافظة على محاسبة النفس يوميًا تُبقي القلب يقظًا. 3. الذكر المستمر: قال الإمام الصادق عليه السلام: “الذِّكر حياة القلوب”. الذكر هو نور يُزيل حُجب الغفلة. 4. البحث عن الصحبة الصالحة: الصحبة النقية تُوقظ القلب وتعيده إلى الله. 5. الاستغفار والتوبة: قال تعالى: “وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ” (الأنفال: 33). التوبة تُذيب ظلمة الغفلة. اليقظة بعد الغفلة: ولادة جديدة حين يستيقظ المسافر من غفلته، فإنها لحظة ولادة جديدة. اليقظة تُعيده إلى الأصل، حيث يُدرك أن كل لحظة غفلة كانت جزءًا من رحلة العودة. الغفلة ليست نهاية الطريق، بل هي وادٍ يُجبر المسافر على صعود جبل أعلى. قال الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاته: “إِلَهِي أَخْرِجْنِي مِنْ ذُلِّ نَفْسِي، وَطَهِّرْنِي مِنْ شَكِّ قَلْبِي”، وهذا هو مفتاح النجاة من الغفلة: كسر قيود النفس وطلب الطهارة من الله. الخلاصة الغفلة هي انقطاع المسافر عن النور، لكن الله برحمته جعلها محطة اختبار وتنبيه، ليُوقظ الأرواح ويُعيدها إلى ساحة القرب. من الغفلة يبدأ المسافر رحلة أعظم، حيث يلتقط أنفاس اليقظة ويركض نحو الله بوعي جديد، فالغفلة، في حقيقتها، ليست إلا جزءًا من حكمة الرحلة. - @mohmammedtaqi313